04-19-2009, 11:39 PM
|
#1 |
معدل تقييم المستوى: 41 | عودة السجيـــــن [frame="15 98"] [gdwl] عودة السجين الليلة ، لفظته الزنزانة ، وتخلص منه السجان . ألفى نفسه ، مع بزوغ نور الفجر ، لأول مرة خارج المحمية بدون حراسة. غير مكبل اليد ولا معصوب العين ، مسكوبا فوق كرسي الإسمنت ، بحديقة الشارع الرئيسي لمدينته . حرك يديه ومسح على وجهه وعينيه . حاول فتحهما فرشقهما الضوء . لم يتحمله فأغمضهما . ثم أخد يتعود على الضوء رويدا حتى انقشع الضباب وأخذ يتتبع المارة : راجلين وسيارات وعربات . استوى جالسا وكأنه يستعيد الحياة من جديد . رقت لحاله امرأة وزوجها خرجا باكرا قصد السفر ، رأته مطويا فوق مقعد الحديقة العمومية ، شاحب اللون ، نحيل البنية ، ممزق الأطمار، مشردا ، اقتربت منه وسلمت ، يجيب بعينيه وملامحه ، ولا ينطق لسانه . لسانه لحمة محمرة متفخة ضاق بها تجويف فمه وما تبقى من اسنانه. ألقت في يده بعض الدنانير صدقة لوجه الله . أبصرهما ، ولم يتبين ما قالت ، وإنما سمع دويا عميقا غير مفهوم . مد يديه يشير .. ساعدوني لأقف . حاولا معه حتى استوى قائما وأخذ يخطو بعض الخطوات . حمد الله كثيرا أن أبقى له قدرا من الطاقة ، ويطلب منه العون والقدرة ليصل عند أهله . سلمته المرأة بعض ما معها من الزاد وانصرفا . حاول أن يتناول منه قليلا فما استطاع مضغه وبلعه . أخذ يسترجع معالم المدينة ومسالكها . تغيرت معالمها كثيرا ، بنايات شاهقة متراصة على جنبات الشارع ، ولوحات إشهار فاخرة زينت واجهات المحلات التجارية . تأمل المكان وتبين أنه على مسافة من بيت أهله . استرجع ذاكرته ، وتعرف على الموقع كما تعرف على بعض الوجوه من المارة ، ولكن أحدا لم يستطع اكتشاف هويته. إنه تغير راسا على عقب . أصبح ، مقوس الظهر ، أصلع الرأس ، أصفر البشرة ، غائر العينين ، لا يمت بأية صلة لما كان عليه قبل اختفائه . تدحرج ببطء شديد، وأخذ يخطو خطو السلحفاة نحو بيت أهله . يتوقع لقاء زوجته التي تركها حاملا من شهرين ، ورؤية والديه المنكوبين والمكلومين بفقدانه ، والسلام على أخته التي تليه ، وتفقد أخيه المشاكس العنيد . تذكر كيف كانت أخته تلهو بفناء الدار ، مع بعض بنات الجارة بالعرائس ، المصنوعة باليد ، المكسوة ببعض بقايا القماش المزركش ، كما تذكر أخاه الأصغر المشاغب ، وصعوبة انصياعه لأوامر كل كبير في الأسرة . لقي في طريقه أحد طلابه بالجامعة آنذاك ، لم تتغيرهيئة الطالب ولا ملامحه . توقع أنه سيصافحه ويعانقه ، لكنه أيضا لم يتعرف على السجين المشرد . وضع الشخص بعض الدنانير بيده صدقة لوجه الله . تيقن عندها صاحبنا أنه مجهول في البلد . استمر في شق طريقه دون أن يعبا بأحد ، لأنه في نظرهم في عداد الموتى ، وعاد اليوم بهيكل وهيئة وملامح غريبة ومشوهة . . قضى اليوم كله في الطريق إلى البيت . وقف قليلا بمدخل الزقاق المؤدي إليه ، بدأ يتبين الأصوات ويميز بينها . يتأمل الوجوه ويحييها في صمت ، بعضهم من أصدقائه ومعارفه وجيرانه ، لم يأبه أحد بحضوره إلى الحي ، تابع طريقه ، يتهادى ويترنح ، حتى ولج باب البيت . لعلها البناية الوحيدة في المدينة التي لازالت على أصلها . لم يعت عليها الزمان ، ولم تتأثر بعوامل الدهر . توجه إلى حجرته القديمة ، وجدها هي هي بأثاثها وتجهيزاتها وأغراضها ، وكأنه خرج منها لبعض الوقت ثم عاد . استقبله فتى من سكان الدار، في ريعان شبابه . سأله الشاب عن وجهته وغرضه . لم يتمكن من الجواب . وأنى له أن يفعل ! وما وسيلته للحديث والتخاطب ؟ إنه عاجز عن النطق والتعبير . اكتفى في الرد بعبرات الدمع المنهمر، المبلل لشعر لحيته الرث المبعثر . واستعاض عن النطق بحركات أنامله المرتجفة . لم يتمكن الفتى من معرفة قصده ووجهته ، واعتقد أنه في حاجة لأكل أو مساعدة . أخذ بيده ورافقه إلى خارج المنزل ، وسلمه بعض النقود والطعام . وودعه . التفت العائد يمنة ويسرة ، وحاول طرق الباب فلم يستطع . آوى إلى ركن بجوار الباب محاولا الاستسلام إلى النوم . لأول مرة منذ سنوات ينام حرا طليقا بمكان هو الذي اختاره وحدده . تغمره سعادة دفينة ، لأنه لم ييأس من لقاء أبويه وأهله . لم يلم الفتى على صنيعه . وأصر على البقاء حتى يتبين مصير زوجته وذويه . نسي الفتى ، ولم يخبر أمه وجدته بالغريب . فقضى ليلته بالعراء إلى جوار بيتهم . وفي الصباح الباكر خرج الفتى - كعادته - لأداء صلاة الصبح في مسجد الحي ، فوجد الغريب جالسا القرفصاء تصطك جوانحه من شدة البرد . فرق لحاله ، وأدخله إلى البهو وزوده بألبسة وأغطية ، وتركه . عرجت أم الفتى بعد أداء الصلاة على البهو ، فاستغربت وجود شخص غريب مستغرق في نوم عميق . تركته وعادت لإتمام بقية أشغالها . ثم لم تطمئن ، فعادت إلى البهو من جديد، وأزاحت الغطاء عن وجه النائم ز رجل مشرد ، ومن الذي أدخله وأحسن إليه ؟ ملامحه مالوفة عندها . فقالت في نفسها : يخلق من الشبه أربعين ... سبحان من لا شريك ولا شبيه له ... سالت ابنها بعد عودته ، فأجاب بأن الغريب ولج الدار مساء أمس ، وأخرجته ، ففضل قضاء الليل بجاورها ، ولما شعر بقربي منه صباحا أخذ يشير بأصبعه إلى صدره ثم إلى الدار . وكأنه يرغب في الاحتمام من لفحات البرد القارس داخل الدار ، فلبيت رغبيه . فردت الام على ابنها ، لا أظنه يقصد الاحتماء من البرد، إن ملامحه مألوفة عندي . استعان الغريب بهما ليجلس ، ودموعه لا زالت وسيلة تعبيره الوحيدة عن آلامه وحسرته ورغباته . الجدة مقعدة في سريرها تنادي الفتى من بيتها . شعرت بالغريب ، وسمعت حديثهم عنه ، فحركتها عاطفة الأمومة ، وتحدت الآلام والمرض وأخذت بيد حفيدها متوجهة نحو الغريب . بادرها الغريب قبل وصولها وحاول اعتصار الحروف ، وناداها بصوت مضطرب غير واضح ولا مفهوم " أمي " ، سمعته ، وفهمته ، وعرفته ، وصاحت بأعلى صوتها : ابني الحبيب ... ابني الحبي ... ابني الح ... وهوت إلى الأرض مغشيا عليها . كانت صدمة المفاجأة أقوى من قدرة تحملها . احتواها الفتى بذراعيه وحملها إلى فراشها . تبعه الابن العائد ، وجثا على ركبتيه تحت قدميها ، نسي آلامه وأوجاعه برؤية أمه وأهله . ضخ الفتى رشات من الماء البارد على وجهها ، إلا أنها لم تستعد وعيها حتى نقلت على عجل مع ابنها العائد إلى مصحة المدينة . بغرفة العلاج التفتت نحو العائد ، و تلمسته بيديها معا . أأنت ..... أأنت ...... أأنت وأين كنت طوال هذه المدة ؟ . تتابع تفحصها لكل جسده وتقول : لم تكن يا ولدي الغالي لا مع الأحياء ولا من عدادهم ... . أبدا ... أبدا ... . كأنك خرجت من قبر ونبعت من بين الأجداث . لا يمكن لأي حي يرزق ويتحرك أن يكون مثل ما أنت عليه . بدنك وحالك وثيابك تفصح عما كنت فيه ، وتحكي حجم معاناتك . أخذهو كذلك يستعيد عافيته بالتدريج . فتأكدت من صدق فراستها ، وحقيقة توقعها ، لما علمت منه بعض تفاصيل الكوارث التي عانى منها ، والمصائب التي قاساها ، منذ اختطافه من مقهى الحي ، إلى اليوم . أمي ... – بصوت متحشرج مفعم بغنة البكاء - رحم الله أبي وأخي وأطال عمرك وعمر أختي وأهلها وزوجتي وابنتي .... أطرقت برأسها . فانهمرت دموعها ولم تتمالك نفسها فارتفع شهيقها وأنينها وأخذت تردد وتبكي : ألا تعلم أنك غبت عنا أزيد من ثلاثين حولا ؟ مات أبوك حسرة وكمدا ، مفجوعا باختطافك ، وأصيب أخوك بعده بقليل ، بمرض عضال لم يمهله طويلا . وأما زوجتك فانتظرت عودتك مدة تزيد على العشرين سنة ، ولما تزوجت ابنتها ورحلت وبقيت وحيدة ، مرضت واضطربت ، فتوقعنا هلاكها ، وأشرنا عليها ، كما أشار عليها أطباؤها ، بالاقتران بأحد الرجال الراغبين في الزواج منها ، لصون حرمتها والحفاظ على كرامتها ، وضمان سلا مة صحتها ، وتطبيق شرع الله وتنفيذ تعاليم رسوله . أمي ... هل لي أن أتمكن من رؤيتهما وتهنئتهما والاطمئنان عليهما . أما ابنتك فمن حقك إحياء صلة الرحم بها ، وسأدعوها وزوجها وأبناءها لرؤيتك ببيتنا وأمامي وبحضور كل أفراد أسرتك . حيث سنقيم حفلا بمناسبة انبعاثك من جديد . أعادت تلمس جسده ورأسه ووجهه وأمسكت بأنامل يديه . حالتك الصحية يرثى لها ... ربما تتطلب مكوثك لعدة أيام تحت رعاية الأطباء المتخصصين بهذه المصحة . بهذه المصحة قضى أبوك وأخوك ، وبها عولج العديد من أفراد أسرتك ، كما أني تعودت على النزول بها كلما كنت في حاجة لعناية بالقلب أو رعاية للتنفس أو تطبيب واستشفاء .... .
[/gdwl] [gdwl] محمد الطيب الحواط
[/gdwl] [/frame]
u,]m hgs[dJJJJJk تسهيلاً لزوارنا الكرام يمكنكم الرد ومشاركتنا فى الموضوع بإستخدام حسابكم على موقع التواصل الإجتماعى الفيس بوك
|
|
| |